غزوة تبوك
بعد فتح مكة لم يبق بعدها مجالاً للشك في الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجًا وعظم شأن الإسلام جدًّا وهذا جعل قوة كبيرة للروم تنظر الي المسلمين نظرة قلق، خصوصا بعد وصول رساله محمد "صلي الله عليه وسلم" الي قيصر الروم يدعوه فيها الي الايمان بالله وحده والي اتباعه فيما يدعوا اليه، وبعد ما انتشر دين الاسلام في شبه الجزيرة العربية، أيقن الروم أن الخطر يوشك أن يواقعهم. فبعد الصدام الدامي مع المسلمين في موقعة مؤتة سنة 8هـ وما أسفرت عنه من انتصار مدوي للمسلمين, لم يغب عن ذهن "هرقل" – قيصر الروم - ضرورة رد الهزيمة بعمل عسكري ضخم وقوي يخضد شوكة المسلمين المتنامية قبل أن يستفحل خطرها وتهدده في عقر داره فأعد "هرقل" جيشًا ضخمًا من الرومان والعرب الغساسنة المحالفين لهم.
وعرف رسول الله "صلي الله عليه وسلم" أن الروم قد جمعت
جموعا كثيرة بالشام. فنادي الرسول في اتباعه بالخروج الي القتال وبعث الي مكة _
حيث كان يسكن المدينة – والي قبائل العرب المسلمه يستنفرهم. وهنا جاء الاختبار
الحقيقي والصادق للايمان، حيث بادر المؤمنين في انفاق اموالهم لتسليح الجيش فأنفق
"عثمان بن عفان" عشرة الاف دينار وثلاثمائه بعير وخمسين فرسا. وجاء
"أبو بكرالصديق" بكل ماله وهي اربعة الاف درهم. وجاء "عمر بن
الخطاب" بنصف ماله. وجاء "العباس بن عبد المطلب" بتسعون الف درهم. وجاء
"طلحة بن عبيد الله" و "سعد بن عبادة" و "محمد بن
مسلمة" مالا كثيرا. وساهم النساء بكل حليهن. وتنافس المسلمون في البذب
والعطاء لتسليح وتجهيز الجيش ليتناسب أمام قوة الروم. وعجز بعض من فقراء المسلمين
عن تجهيز أنفسهم بالدواب فجاءوا الي رسول الله "صلي الله عليه وسلم"
يسألونه الاشتراك في الجهاد فجعل يصرفهم ويقول لهم:" لا أجد ما أحملكم
عليه". فينصرفوا وعيونهم تفيض من الدمع حزنا. وعلي النقيض من كل هذا فقد ظهر
المنافقون من الأغنياء القادرون عل تجهيز أنفسهم للجهاد وتجهيز غيرهم الذين أخذوا
يتعللون وينتحلون الاعذار ليتخلفوا عن الركب. ولم يكتف المنافقون بأن يقعدوا بل
جعلوا يثبطون الناس ويخوفونهم لقاء الروم، ويستهينوا بعدة جيش المسلمين أمام قوة
جيش الروم. ولكن ذلك لم يمنع المسلمين أن يعدوا للخروج عدته وتتابع الناس يتوافدون
علي المدينة من كل مكان حتي زاد عددهم علي ثلاثين ألف.
وخرج النبي "صلي الله عليه
وسلم" يقود هذا الجيش الكبير يوم الخميس غرة شهر رجب سنة 9هـ طالبًا تبوك. كانت مسيرة الجيش شاقة جدًّا، وكانت تلك المشقة اختبار من الله لهم، أراد
به تمحيص الممنين واستخلاصهم، واعدادهم لاحتمال مشاق الجهاد في سبيله ولينظر مبلغ
صبر الصابرين وصدق الصادقين في سبيل دينه، فالعدو بعيد والحر شديد, حتى إن العطش
كاد أن يقتلهم، فقال "عمربن الخطاب": يا رسول الله إن
الله قد عودك في الدعاء خيرًا فادع الله لنا, قال الرسول: "أتحب
ذلك؟", قال نعم, فرفع الرسول يده فلم يرجعهما حتى نزل المطر عليهم فسقوا
وارتووا, ثم أشار عليه "عمر" فقال: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من
أزواد القوم فدعوت الله عليها فجاء الناس بأزوادهم, فبارك عليها الرسول حتى
ملأ الزاد والطعام كل المعسكر. أي ان الرسول "صلي
الله عليه وسلم" دعا الله علي طعام معسكره بالبركة والزياده فبارك الله في
الطعام فازداد.
أثناء السير مر الجيش الإسلامي على بلدة
ثمود - بلدة نبي الله "صالح"
عليه السلام - فنزل الجيش عندها فاستقى الناس من بئرها وطبخوا منه وعجنوا عجينهم,
فقال لهم الرسول: "لا تشربوا من مياهها ولا تتوضئوا منه للصلاة, وما كان من
عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً", وأمرهم أن يشربوا
ويتزودوا من بئر ناقة "صالح" ورأى
بعض أصحابه قد دخلوا ديار ثمود ينظرون ما فيها فقال لهم: "لا تدخلوا على
هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين, فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن
يصيبكم مثل ما أصابهم" وتقنع بردائه وهو على الناقة.
لما نزل الرسول والصحابة أحد المنازل ليبيتوا قال لهم
الرسول: "لا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له", ففعل الناس ذلك
إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر في طلب بعير له, فأما الأول
فجن, وأما الآخر فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيء فلما علم الرسول قال: "ألم
أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له", ثم دعا للذي أصيب فشفي, وأما الآخر فإن
طيئًا أهدته إلى رسول الله حين عاد إلى المدينة.
قبل الوصول إلى تبوك أخبرهم
الرسول بأنهم يأتون تبوك من يوم غد وأمرهم أن من سبق إليها لا يمس من بئر تبوك
شيئًا فلما جاءوها سبق رجلان من المنافقين إليها وأخذا من ماء البئر, فلما علم
النبي دعا عليهما وسبهما ثم غسل الرسول فيها وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجرت العين
بماء كثير فاستقى الناس كلهم ثم قال الرسول ل"معاذ": "يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى
ما هاهنا قد ملئ جفانا" وهو ماحدث حيث
نري اليوم من وفرة المياه واتساع الرقعة الخضراء في تبوك، وتبوك في في شمال غرب المملكة العربية السعودية الآن.
نزل رسول الله والمسلمون
تبوك فمكثوا فيها عشرين ليلة تقريبًا لم يأتهم فيها أحد من الروم الذين ألقى
الله في قلوبهم الرعب الشديد فلم يجرؤ أحد منهم على الالتقاء مع المسلمين
وتفرقت جيوشهم داخل بلادهم, وعندها أدرك المتحالفون مع الروم أن أسيادهم القدامى
قد ولت أيامهم فأقبلوا على مصالحة المسلمين, فجاء "يحنة بن رؤبة" صحاب
مدينة إيلة فصالح الرسول وأعطاه الجزية وكذلك أهل حرباء وأدزح وتم أسر ملك دومة
الجندل "أكيدر دومة" ودفع الجزية, وكانت الفترة التي قضاها المسلمون في
تبوك لتثبيت أقدامهم في المنطقة وإرساء السمعة العالمية التي اكتسبها المسلمون
بإفزاع الروم أقوى جيوش الأرض وقتها وبعدها قرر الرسول الرجوع بعد ما أمن حدود
الدولة من ناحية الشمال.
وكان رجوعه "صلي الله عليه
وسلم" في رمضان 9 هجرية، ديسمبر 630م.
بعد أن تم للرسول ما أراد من تثبيت أركان هيبة
الدعوة الإسلامية في تلك البلاد قفل راجعًا إلى المدينة وأثناء رحلة الرجوعع حاولت
مجموعة من المنافقين مكونة من اثنا عشر رجلاً من أئمة النفاق قتل النبي, وكان مع
النبي "حذيفة" و"عمار" يقودان ناقته, فهجمت مجموعة من
المنافقين من الخلف وهي تريد طرح الرسول من على ناقته ثم الفتك به, فغضب الرسول
وأمر "حذيفة" أن يردهم فاستدار حذيفة كالأسد الجسور وتصدى وحده للاثنى
عشر وضرب وجه رواحل المنافقين ففروا جميعًا هاربين ودخلوا مع عامة الجيش وعرفهم
النبي وصرح بأسمائهم ل"حذيفة" الذي عرف بعد ذلك بصاحب السر, ولما علم
الصحابة بما جرى قالوا للنبي: "يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث
إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ فقال: "لا أكره أن تحدث العرب بينها أن محمدًا قاتل
بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم".
واصل رسول الله رحلة العودة وفي
الطريق قال أحد المنافقين لرفقائه في السفر: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أكذبنا
ألسنة وأرغبنا بطونا وأجبننا عند اللقاء, فوافقه منافق مثله وقال آخر وكان مؤمنًا:
إني أخشى أني نزل فينا قرآنًا, وبالفعل أطلعه رسول الله على الأمر عن طريق الوحي
ونزل فيهم القرآن من سورة التوبة, وجاء المنافق يعتذر للنبي وقد تعلق برجل ناقة
النبي يرجوه المغفرة والعذر, ورسول الله لا يلتفت إليه, ويقول له: {قُلْ
أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا
قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66], والمنافق يقول له: يا
رسول الله, إنما لقطع الطريق وكنا نخوض ونلعب.
قبل أن يدخل النبي المدينة أرسل
اثنين من الصحابة وهما "مالك بن الدخشم" و"معن بن عدي" ليحرقا
المسجد الذي بناه المنافقون ليكون وكر للتآمر والكيد بالإسلام والمسلمين, وهو ما
يعرف في السيرة باسم مسجد الضرار.
بعد أن
دخل النبي والمسلمون المدينة جاءه المنافقون ليعتذروا عن تخلفهم عن الغزوة وحلفوا
له كذبًا فقبل رسول الله علانيتهم ووكل سريرتهم لله وجاءه الثلاثة الذين
خلفوا وكان أمرهم ما كان ورأى النبي "أبا لبابة" وأصحابه وقد قيدوا
أنفسهم في سواري المسجد وقد حلفوا ألا يفكوا أنفسهم حتى يتوب الله عليهم.
وأنزل الله في هذه الغزوة كلها سورة كاملة في
القرآن هي سورة التوبة أو الفاضحة للمنافقين تقص علينا نفسية المنافقين وكيفية
التعامل معهم وتفضح أساليبهم وكيدهم وأهدافهم الدنيئة, وكانت هذه الغزوة بحق خاتمة
الغزوات النبوية.
تعليقات
إرسال تعليق