أحمد بن طولون 18
(18) كان "أحمد بن طولون" واحد من الشخصيات اللي سابت بصمة كبيرة في تاريخ مصر. في حكايتنا النهارده هنحاول نحلل شخصيته بناء على بعض تصرفاته اللى ممكن من خلالها نكون فكرة عامة عن فكرة وتوجهه. زي ما حكينا في أول أجزاء السلسلة، أ "أحمد بن طولون" كان ناشئ على التدين وتقوى الله، لكن لما نيجي نبص لتقواه، هنلاقي إنها مختلفة عن النوع اللي بنشوفه في شخصيات زي "عمر بن عبد العزيز" مثلا في الخلفاء أو حتى زي القاضي "بكار بن قتيبة" اللي أتكلمنا عنه في الجزء اللي فات. تقوى "أحمد بن طولون" كانت بتخدم الأسلوب اللي كتير من الحكام في الشرق استخدموه لتثبيت عروشهم وكسب رضا الناس.
يعني رغم إنه بدأ حياته بتعليم ديني كويس، لكن السياسة اللي دخل فيها قلبت حياته 180 درجة. الراجل كان ميكافيلي بامتياز - الميكافيلية هي مبدأ الغاية تبرر الوسيلة - بيعمل اللي يخدم مصالحه حتى لو ظهر قدام الناس إنه شيخ الزهد والتقوى. مشاريعه زي بناء الجامع الضخم، والقناطر، والمستشفى، وحتى دعوته للجهاد ضد الروم و"الموفق"، كلها كانت وسايل بتخدم غاية "ابن طولون" السياسية أكتر ما بتخدم تقواه. مش متخيل صح، طب تعالى أقولك أنه مرة أمربجلد خطيب المسجد لأنه نسي يدعيله في الخطبة بعد الدعاء للخليفة وولي العهد. والجهاد اللي خده حجة علشان يتحرك للشام، أول ما وصل للثغور بدأ يفاوض الروم ويعقد معاهم صلح. وحتى لما عمل اجتماع كبير في دمشق وطلع قرار بعزل "الموفق" علشان ينقذ الخليفة "المعتمد" - راجع الجزء ال 17 - كان مستعد يعترف ب"الموفق" لو كان "الموفق" اعترف بحكمه.
لكن خلونا ما ننساش حاجة مهمة عن "أحمد بن طولون"، وهي ذكاؤه وكرمه اللي ملوش مثيل. الراجل كان بيفهم اللعب كويس وبيعرف يكسب الناس حواليه. كان كريم لدرجة إنه بعت للخليفة "المعتمد" فلوس وهدايا في السر، وده خلاه ياخد مكانة كبيرة عنده. حسب ما قال المؤرخ "ابن الأثير" أن "المعتمد" كان بيعاني من سيطرة أخوه "الموفق" عليه، وتحكمه في بيت المال ومصاريف الخليفة الشخصية، لدرجة إن الخليفة مرة احتاج 300 دينار و"الموفق" رفض يديهمله، وهنا "أحمد بن طولون" لبس توب عفريت المصباح اللي بيحقق للخليفة أحلامه وفي السر. وعشان كده أول ما "أحمد بن طولون" قال للخليفة تعالى لحمو اللي بيجيبلك الشكليته، الخليفة جري عليه.
كرم "أحمد بن طولون" ما وقفش عند الخليفة بس، ده كان مهوس ترف على نفسه وعلى اللي حواليه - عكس ابنه خماراويه اللي كان بيحب نفسه بس - بيحب يظهر غناه وثروته قدام الناس. يعني مثلا تلاقيه في 4 سنين اتصدق بمليونين ومتين ألف دينار، وكان شهريا بيطلع ألفين دينار صدقات. غير الأكل اللي كان بيتوزع على الفقراء والولائم الضخمة اللي بيعملها علشان عامة الناس البسيطة، ومكنش بيفرق بين مسلم ولا مسيحي ولا يهودي. "أحمد بن طولون" كان مزيج من التقوى اللي تخدم السياسة، والدهاء اللي يضمن له النفوذ، والكرم اللي كسب به قلوب كتير. حاكم مايعرفش يمشي خطوة إلا وهو عامل حساب مصلحته، لكنه برضه سايب لنا إرث ما نقدرش ننكره.
ومن أكتر الحاجات اللي خلت الناس تحب "أحمد بن طولون" وتحترمه، كان إحساسه النبيل أوقات كتيرة، وتقديره حتى لخصومه. فاكر "العمري" المتمرد الثائر اللي تعب "ابن طولون" بتمرده - راجع الجزء ال 11 - ومقدرش عليه غير لما عبيد "العمري" قتلوه منهم لنفسهم وهم فاكرين أنهم هيكسبوا رضا وثقة "أحمد بن طولون" بعملتهم، وراحوله وهم شايلين راس "العمري"، فبدل ما يكافئهم، عاقبهم وسجنهم. الموقف ده لوحده بيورينا أنه كان عنده خطوط حمرا ما بيعديهاش، ومنهم أن الخائن لا يؤتمن.
وكمان عندنا قصة الجاسوس اللي أتقبض عليه في الفسطاط وكان من رجال "الموفق". عرض عليه "أحمد بن طولون" يسيب شغله مع "الموفق" ويشتغل معاه جاسوس مزدوج، لكن الجاسوس رفض وقال له أنا انضميت ليهم قبل ما أعرفك، ومش هقدر أخونهم حتى لو موتتني. المفاجأة بقى أن "أحمد بن طولون" احترم إخلاصه جدا وما عاقبوش،وخيره ما بين يقعد في مصر بأمان بس من غير ما يشتغل في الجاسوسية أو يرجع العراق، والجاسوس اختار يرجع بلده. الراجل ده بعد ما رجع بلده فضل طول عمره يتكلم عن أخلاق "أحمد بن طولون" العظيمة وفضله.
بس تعالى هنا متنبهرش، لازم نكون واقعيين ونفهم إن المواقف دي ساعات كانت بتبقى وسيلة من الحكام زي لكسب قلوب الناس وسمعتهم الطيبة، عشان يستغلها في مصالح تانية. لأنه في أوقات تانية كان قاسي جدا وبيعرف يضرب خصومه بيد من حديد لما الأمور تحتاج، متنساش اللي عمله مع ابنه "العباس"، راجع الجزء ال 12.
نجاح "أحمد بن طولون" مكنش قايم على الحظ ولا على المظاهر بس. الراجل كان إداري شاطر بمعنى الكلمة، بيعرف يدير الأمور زي الساعة، ويزرع في قلوب اللي حواليه مزيج من الهيبة والاحترام. وكمان كان عنده قدرة خارقة على كشف أعداؤه وتدمير خططهم قبل ما حتى ينفذوها.
المؤرخين حكوا حكايات كتير عن حيل "أحمد بن طولون" اللي كان بيستخدمها بدل ما يلجأ للقوة، إلا لو مفيش قدامه حل تاني، وكانت الأمور بالنسبة له حياة أو موت. "أحمد بن طولون" كان مبدأه بفلوسي أحمي رجالي، وبرجالي أحمي نفسي، وده كان أسلوبه في التعامل مع أي تهديد.
واحدة من الحيل العبقرية بتاعته حصلت في سامرا، "أحمد بن طولون" لعب دور عائلة روتشيلد في عصره، عمل اتفاق مع كبار التجار هناك ووصلهم مبلغ كبير جدا ومتجدد كل فترة، وجندهم يدوا قروض مفتوحة ومتيسرة للقادة الترك والعباسيين ورجال الإدارة، ووقت ما "الموفق" يعرض على أي حد منهم منصب حاكم مصر ويستعد ويجهز شنطته للسفر، التجار كانوا على طول يقفوا على بابه يطالبوه بالدين ويقولوله هتروح مصر تواجه مية ألف فارس لوحدك؟ طيب سدد ديونك الأول عشان نترحم عليك لما ما ترجعش. وبكده كان بيخوف أي مرشح قبل ما يوافق على المنصب، وعشان كده قلتلك قبل كده أن "الموفق" و"موسى بن بغا" - راجع الجزء ال 9 - لفوا على طوب الأرض بعرض منصب أمير لمصر محدش وافق. ماشاء الله دماغ أبالسة.
ومن ضمن قصص حيله فائقة الذكاء، كان فيه واحد من أتباع "الموفق" دايما بيشتم في "ابن طولون" وبيخطط ضده، وهو مطمن أكمنه في سامرا بعيد عن ايد "ابن طولون". كلام الرجل ده كان تقيل على قلب "أحمد بن طولون" فقرر يغرسه بس مش بإيده، بعت له رسالة قاله فيها إنه عايز يعينه رئيس لعيونه في العراق لأنه شايفه أكتر حد مناسب للمنصب بسبب ولاءه للطولونيين (تخيل الكذبة). وبعت مع الرسالة ألفين دينار هدية كمان، وخلا حد من جواسيسه مقرب ل"الموفق" يبلغه بالفلوس والرسالة. ف"الموفق" شك فيه وسجنه، و"ابن طولون" خلص عليه بأسلوب ولا أذكى. نفس الطريقة دي شبهها المؤرخين بخطة "معاوية بن أبي سفيان" لما خلى "قيس بن سعد" يتعزل من مصر أيام خلافة "علي بن أبي طالب" كرم الله وجهه، بالشبهات والوشايات.
وعلى قد ما "أحمد بن طولون" كان ذكي في التعامل مع أعداؤه، كان أكتر حذر مع رجاله نفسهم. ساعات كان يضيف بخط إيده حاجات على المكاتبات الرسمية عشان يضمن إن الكلام يبقى سرّي وما يتسربش. لدرجة إن كاتبه لاحظ إن فيه ردود بتيجي على موضوعات ما كتبهاش أصلا، واكتشف بعد فترة طويلة إن "ابن طولون" كان بيشتغل في الخلفية بخطة مابتفلتش منها حاجة.
"أحمد بن طولون" مش بس كان راجل شجاع وذكي ومليان نشاط، ده كمان كان متعلم وعنده علم خلى المؤرخين كلهم يتفقوا إنه كان شخصية استثنائية. ورغم كل مواهبه وشطارته، نجاح "ابن طولون" مكنش سببه ده لوحده. وقتها كانت الخلافة العباسية في حالة تفكك، وحروب الزنج خدت كل وقت وجهد "الموفق" اللي ماقدرش يركز على إخضاعه. و"أحمد بن طولون" كان أستاذ في اصطياد الفرص، ده غير إن علاقات "ابن طولون" العائلية لعبت دور كبير جدا في صعوده.
"أحمد بن طولون" كان محظوظ من البداية. أمه كانت متجوزة قائد تركي، وبعد كده اتجوزت قائد تاني بقى هو اللي ماسك مصر، وده طبعا سهل ل"ابن طولون" إنه يدخل اللعبة. كمان "ابن طولون" نفسه اتجوز "خاتون بنت يارجوخ" - راجع الجزء الأول - ولما أبوها "يارجوخ" مسك مصر - راجع الجزء التامن - ثبت جوز بنته كنائب له عليها. وبعدين أتجوز "خديجة بنت الفتح بن خاقان"، أبوها الوزير اللي كان ماسك إقطاع مصر قبل ما يتقتل مع الخليفة "المتوكل". وده معناه إنه "ابن طولون" دايما كان عارف يلعب على العلاقات اللي بتديله قوة ونفوذ. والجميل في الموضوع إن اللي شهد على عقد جوازه بنفسه كان الخليفة العباسي "المتوكل" وأخو العروسة "محمد بن الفتح بن خاقان"، اللي كان صاحبه كمان، سافر بيها من العراق لحد مصر عشان تروح ل"ابن طولون" سنة 259 هـجرية/ 873 ميلادية. يعني الراجل ده كان حظه ماشي معاه صح، وعارف يستغل كل فرصة تتفتح قدامه بشكل يخليه دايما في المقدمة.
(يتبع)
مروة طلعت
21/12/2024
الجزء الأول
https://www.facebook.com/share/p/15S5pbGhCy/
الجزء الثاني
https://www.facebook.com/share/p/19YH9rSbEb/
الجزء التالت
https://www.facebook.com/share/p/1G6MQJ8jPA/
الجزء الرابع
https://www.facebook.com/share/p/19fGndQh69/
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/1Ax7r7wwx1/
الجزء السادس
https://www.facebook.com/share/p/13yWSkeVUZ/
الجزء السابع
https://www.facebook.com/share/p/1E6qCSabMT/
الجزء التامن
https://www.facebook.com/share/p/1QLRXzSG7g/
الجزء التاسع
https://www.facebook.com/share/p/1BTtT4WQJk/
الجزء العاشر
https://www.facebook.com/share/p/1B45f1rFHr/
الجزء الحادي عشر
https://www.facebook.com/share/p/18GLuvDrf5/
الجزء الثاني عشر
https://www.facebook.com/share/p/15Fxh2G6mK/
الجزء الثالث عشر
https://www.facebook.com/share/p/15mvpXW2DJ/
الجزء الرابع عشر
https://www.facebook.com/share/p/1D51eMwEog/
الجزء الخامس عشر
https://www.facebook.com/share/p/1H3GCr6Qdh/
الجزء السادس عشر
https://www.facebook.com/share/p/15NBTe9NkK/
الجزء السابع عشر
https://www.facebook.com/share/p/1E2ZFAm44D/
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#أحمد_بن_طولون
#القطائع
#السيرة_الطولونية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج2 ـ إبن تغري بردي.
الخطط المقريزية ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 15 - الامام الذهبي.
الطولونيون دراسة لمصر الاسلامية في نهاية القرن التاسع الميلادي - دكتور ذكي محمد حسن.
أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية - دكتور عبد العزيز سالم.
تاريخ مصر في عهد أحمد بن طولون - محمد كرد علي.
سيرة أحمد بن طولون - أبو محمد عبد الله محمد المديني البلوي.
أحمد بن طولون - دكتورة سيدة إسماعيل كاشف.
البداية والنهاية ج14 - ابن كثير.
مروج الدهب ومعادن الجوهر ج4 - المسعودي.
تاريخ الطبري ج9 - الامام الطبري.
تعليقات
إرسال تعليق