أحمد بن طولون 16
(16) "أحمد بن طولون" كتب اسمه بحروف من دهب في تاريخ مصر والشام، قدر يوصل لأوج قوته وعظمته لما انتصر في حملته على الشام ونجح في إخضاع ابنه "العباس" اللي كان عامل مشاكل، وحاول يثور عليه. من اللحظة دي، "أحمد بن طولون" قرر يثبت وجوده بشكل أقوى، وابتدا يضيف اسمه مع اسم الخليفة في سك النقود في مصر.
لحد سنة 266 هجرية / 880 ميلادية، كان المعتاد إن النقود في مصر بتُضرب باسم الخليفة العباسي بس من غير اسم الولاة. لكن "أحمد بن طولون" كسر القاعدة وكتب اسمه جنب اسم الخليفة. وفي عهد الخليفة العباسي "المعتمد" كان الولاه في كل البلاد بيكتبوا أسم الخليفة ومعاه أسم أخوه "الموفق"، كنوع من مسح الجوخ، خصوصا أن "الموفق" كان هو الآمر الناهي الحقيقي، والخليفة ماهو الا مجرد صورة لأجل الشرعية. "أحمد بن طولون" كان أول والي يمتنع عن إضافة اسم "الموفق" رغم إن باقي الولاة في العالم الإسلامي كانوا بيحطوا اسمه. خد التقيلة بقى، "الموفق" كان بيتقال أسمه في دعاء خطبة الجمعة في مصر وباقي الدول الاسلامية مع أسم الخليفة، وبكده كان فيه اعتراف ضمني بسلطته. لحد سنة 268 هجرية / 882 ميلادية، "أحمد بن طولون" قرر يحذف اسم "الموفق" تماما من خطبة الجمعة، وده كان إعلان صريح منه إنه مش معترف بسلطة "الموفق"، هو "الموفق" كان هيتجلط منه من شوية.
"أحمد بن طولون" كان لسه بيشم نفسه بعد ما خلص على تمرد ابنه "العباس"، لكن الأحداث ما سابتوش في حاله. مولاه "لؤلؤ" اللي كان ماسك له حلب وقنسرين وحمص، فجأة انقلب عليه وراح اعترف بسلطة "الموفق" وبعت له أموال الجزية اللي المفروض كان يبعتها ل"أحمد بن طولون". المؤرخين ما اتفقوش على السبب الحقيقي للخيانة "لؤلؤ"، فريق بيقول إن سياسة التقشف والاقتصاد اللي كان بينتهجها "ابن طولون" هي السبب. وفريق تاني، زي ما قال "ابن سعيد" نقلا عن "ابن الداية"، شايف إن "لؤلؤ" كان زعلان إنه اتعين في الشام بعيد عن بلاط الأمير في مصر، وما بقاش في نفس المنزلة اللي كان بيحلم بيها. "أحمد بن طولون" نفسه كان شايف إن خيانة "لؤلؤ" وراها كاتبه "محمد بن سليمان"، اللي نصح "لؤلؤ" إنه ينضم ل"الموفق" لما خاف من عقاب "ابن طولون" بسبب جزء من الجزية كان استولى عليه.
لكن السؤال هنا، هل "لؤلؤ" كان فعلا متوقع إنه يوصل مع "الموفق" لحاجة أكبر من اللي كان بين إيديه عند "ابن طولون"؟. الإجابة أنها شيء مستبعد، خاصة وإن "أحمد بن طولون" كان سايب له حرية تامة في إدارة الشام، والدليل على كده إن اسم "لؤلؤ" كان بيتكتب على سك النقود بعد اسم "أحمد بن طولون" في الشام.
والدليل على الكلام ده، فيه دينار مضروب في الرافقة سنة 268 هجرية / 882 ميلادية - بلد بناها الخليفة العباسي المنصور جنب الرقة على نهر الفرات - ، ومحفوظ في دار الكتب المصرية، على الدينار ده مكتوب اسم "أحمد بن طولون" ومكتوب بعده اسم "لؤلؤ"، وده دليل على قوة "لؤلؤ" في الشام وقتها. لكن بعد ثورة "لؤلؤ"، وفي دينار تاني مضروب في نفس المكان سنة 270 هجرية، مش مكتوب عليه اسم "لؤلؤ" خالص. اسمه اختفى وبقى الدينار باسم "أحمد بن طولون" لوحده، وكأن "ابن طولون" قاصد يقول أنا السيد الوحيد هنا، وكل ولائي لمصر وقوتها.
في سنة 268 هجرية / 882 ميلادية، بعد ما بدأت نيران التمرد تشتعل بين "أحمد بن طولون" ومولاه "لؤلؤ"، الأمور اتعقدت أكتر لما "ابن طولون" قرر يعين صهره "محمد بن فتح بن خاقان" والي على البلاد اللي كان "لؤلؤ" والي عليها . المؤرخ "ابن سعيد" بيقول إن التعيين ده كان بداية أنفجار الخلاف الكبير بين "أحمد بن طولون" و"لؤلؤ". لكن الأكيد بقى إن "محمد بن سليمان"، الكاتب بتاع "لؤلؤ"، كان له دور كبير في إشعال نار الفتنة والخيانة دي. "أحمد بن طولون" كان شايف إن "محمد بن سليمان" هو العقل المدبر اللي شجع "لؤلؤ" أنه ينضم ل"الموفق" ضد سيده. لما "ابن طولون" عرف بخبر التمرد ده، أمر بمراقبة "عبيد الله بن سليمان" أخو "محمد بن سليمان"، خوفا من إن يكون لهم دور أكبر في المؤامرة."أحمد بن طولون" من أول يوم شاف فيه "محمد بن سليمان" ومكنش مستريحله وكارهه لله في لله، ومكنش راغب أنه يكوم مع "لؤلؤ" لولا ظروف الأحداث اللي ورا بعضها عليه شغلته عنه، وكالعادة "أحمد بن طولون" كان عنده بعد نظر وحاسة سادسة، لأن "محمد بن سليمان" مش بس قلب "لؤلؤ" عليه وعمل فتنو وتفرقة في الشام، ده "محمد بن سليمان" هو اللي هيقضي على الدولة الطولونية خالص بعدين، مش في حياة "أحمد بن طولون".
خيانة "لؤلؤ" دي كانت القشة اللي قطمت ظهر البعير، و"ابن طولون" قرر يطلع بنفسه على بلاد الشام علشان يرجع الأوضاع زي ما كانت تحت سيطرته. في سنة 268 هجرية / 882 ميلادية، قبل ما يخرج "أحمد بن طولون" من مصر للشام، حب يلعبها سياسة مع "الموفق"، قام كتب خطاب للخليفة العباسي "المعتمد" وقاله: "قد منعني الطعام والشراب والنوم خوفي على أمير المؤمنين أطال الله بقاءه من مكروه يلحقه، وأصبحنا بأصحاب أمير المؤمنين في رده ومقارعه، فحنث الأيمان المؤكدة له في أعناقنا، وقد اجتمع عندي مائة ألف عنان، مؤلفة قلوبهم، مجتمعة آراؤهم، شديد بأسهم، وأنا أرى لسيدي أمير المؤمنين أدام الله عزه بالنصر والتمكين الانجذاب إلى مصر، فإن أمره يرجع بعد الامتحان إلى نهاية العز ولا يمكن فيه ما يخافه في كل لحظة منه عليه".
من سنين طويلة و"أحمد بن طولون" عايش وسط دوامة من الصراع، بيحاول يثبت استقلال مصر ويحتفظ بيه رغم كل التحديات والمؤامرات. لكن المرة دي، "ابن طولون" قرر يظهر بصفة جديدة، صفة هتزعل خصومه وتفرح اللي معاه. "المدافع عن الخلافة بالسيف والسلاح"، ده ماكانش مجرد لقب، لكنه إعلان واضح إن "أحمد بن طولون" بقى واحد من كبار اللاعبين على مسرح السياسة في العالم الإسلامي. كان صوته بدأ يعلو لدرجة إن الخليفة نفسه بقى لازم يحسب له ألف حساب.
في اللحظة اللي انحاز فيها "لؤلؤ" ل"الموفق" وخلع طاعة "أحمد بن طولون"، الأمور ابتدت تبان وكأنها بتنهار قدام عينيه. بعد سنين طويلة من الكفاح والتعب، "ابن طولون" كان مستحيل يقبل إن كل اللي بناه يضيع بسهولة، وبدل ما يفضل يتفرج، قرر يلعبها صح ويضرب ضربة جريئة ممكن تكون الضربة القاضية. الضربة دي كانت أكبر من مجرد خطوة عسكرية، "ابن طولون" كان عايز يثبت نفسه مش بس كحاكم مستقل، لكنه كزعيم للعالم الإسلامي كله، خصوصا وقت ما كانت الخلافة العباسية نفسها في أضعف حالاتها. "ابن طولون" ماكانش بيدور بس على الحفاظ على ملك مصر ونفوذه في الشام، لكنه كان شايف في خطوته دي فرصة كبيرة إن مصر تكون هي اللي تقود العالم الإسلامي وتكسب مكانتها اللي تستحقها.
قبل ما يخرج "أحمد بن طولون" في حملته للشام، استخلف على مصر مكانه ابنه "خمارويه"، وأخد معاه ابنه "العباس" من السجن وهو مقيد، عشان يضمن إنه مفيش حد يستغل غيابه ويطلعه من السجن ويحصل تمرد جديد، واضح أن حاسته السادسة برده عرفته أن "خماراويه" مش الشخص القوي اللي محتاجه، بس أهو اللي موجود، خلفته وحظه. وبعد ما استقر الحال في مصر، شد الرحال لدمشق، في جمادى الأولى سنة 269 هجرية / 883 ميلادية ومعاه جيشه، وكان هدفه الأساسي إنه يلحق ب"لؤلؤ" ويعلمه درس مايتنسيش له ولغيره في عاقبة الخيانة.
عاوزين نفهم حاجة مهمة، خروجه للشام المرة دي مكانش بدافع توسع جديد. بالعكس "أحمد بن طولون" كان عايز يثبت سيطرته على البلاد اللي ضمها تحت راية مصر، خصوصا بعد ما خيانة "لؤلؤ" خلت الأمور أهتزت، وكانت هتفتح الباب ل"الموفق" علشان يستغل الموقف ويقلب الطاولة. وهناك ابتدت توصله أخبار جديدة كانت كفيلة تقلب المشهد كله.
القصة بدأت لما "يازمان" الخادم سيطر على طرسوس واستمال أهلها لحكمه، متنساش أن أهل طرسوس كانوا رافضين "ابن طولون" في نسخته الجديدة - كان والي عليهم قبل ما يروح مصر - وقاموا بثورة ضده لما زود الضرايب. "يازمان" عزل "خلف الفرغاني"، اللي كان ابن طولون عيّنه والي عليها بعد ما توفى "طخشي". لما الخبر ده وصل ل"ابن طولون"، مسكتش، وكتب فورا ل"خلف الفرغاني" يطلب منه يقبض على "يازمان" ويسلمه ليه، لكن أهل طرسوس وقفوا مع "يازمان"، وعينوه والي رسمي عليهم، وطردوا "خلف" من المدينة.
في الوقت ده، "الموفق" كان على وشك الانتصار في معركته ضد ثورة الزنج، وده معناه إنه خلاص هيفضى لمواجهة "أحمد بن طولون" بقوته الكاملة. المشهد كان شكله كده داخل على مواجهة كبيرة، وعشان كده "أحمد بن طولون" كان بيستعد ليها. "أحمد بن طولون" كان عنده أمل خفي إن الخليفة العباسي "المعتمد" نفسه تميل للرسالة اللي بعتهاله، ويهرب من نفوذ "الموفق" وييجي لمصر، ووقتها كان هينقل كرسي الخلافة العباسية لوادي النيل، ويحط مصر في مكانة تاريخية جديدة. "أحمد بن طولون" كان سياسي محنك، عارف إمتى يكسب ويثبت سلطته، ورفض إنه يخضع للضغوط المركزية اللي كان بيحاول يفرضها "الموفق" عليه. لكن زي ما بنشوف في التاريخ، لعبة السياسة عمرها ما كانت سهلة، وتمرد حكامه ومقربيه كان دايما بيشكل تحدي جديد ليه.
لما شاف "أحمد بن طولون" إن الأمور خارجة عن السيطرة في طرسوس، قرر إنه يتحرك بنفسه عشان يعيد المدينة لحكمه. لكن وهو بيجهز جيشه، جاله خبر كان ممكن يغير مجرى التاريخ كله، الخليفة "المعتمد" ناوي يجيله على مصر، يا فرج الله.
هنا بيظهر دور الخليفة "المعتمد" اللي كان محاصر بين نفوذ "الموفق" من ناحية، وقلة الحيلة من ناحية تانية. المؤرخ "ابن الداية" بيحكي إن رسالة "ابن طولون" وصلت للخليفة ولاقى عنده قبول كبير، وده عشان "المعتمد" كان شايف في عرض "ابن طولون" فرصة للهروب من تضييق "الموفق" واهانته وتهميشه المستمر. يعني باختصار هو عارف إنه لو راح لمصر هيرتاح تحت حماية أمير قوي زي "أحمد بن طولون"، وفي نفس الوقت هياخد أمان وفلوس كتيرة وحياة كريمة، بعيد عن السيطرة اللي كان "الموفق" فارضها عليه.
"أحمد بن طولون" بقى كان بيفكر بطريقة مختلفة تماما، هو كان عايز يسحب البساط من تحت رجل "الموفق" ويجرده من أي شرعية بيستند ليها، وياخد الشرعية دي لنفسه، يعني كان عاوز يحط نفسه مكان "الموفق" أصلا. "الموفق" كان دايما بيستغل الخليفة عشان يصدر بأسمه قراراته وأوامره، و"أحمد بن طولون" قرر يقطع الطريق ده ويخلي الخليفة في صفه، عشان يبقى هو المتحكم و"الموفق" يبقى بلا سند ولا قوة شرعية.
من أول لحظة، كان "أحمد بن طولون "بيحلم بمصر قوية ومستقلة، مش مجرد ولاية تابعة. كل خطوة في رحلته، من انتصاراته في الشام وصراعه مع "الموفق" وخيانة "لؤلؤ"، كانت بتأكد إنه قائد استثنائي هدفه رفعة مصر. جرأته في ضم اسمه للسكة والخطبة، ومواجهته ل"الموفق"، ومحاولته لجذب الخليفة العباسي، كلها كانت خطوات لتحقيق حلمه الكبير، إن مصر تكون قلب العالم الإسلامي. ورغم كل التحديات، فضلت قصة "ابن طولون" رمز للصمود والطموح، وصورة لحاكم حارب عشان يكتب اسم مصر في مكانة تستحقها.
(يتبع)
مروة طلعت
18/12/2024
الجزء الأول
https://www.facebook.com/share/p/15S5pbGhCy/
الجزء الثاني
https://www.facebook.com/share/p/19YH9rSbEb/
الجزء التالت
https://www.facebook.com/share/p/1G6MQJ8jPA/
الجزء الرابع
https://www.facebook.com/share/p/19fGndQh69/
الجزء الخامس
https://www.facebook.com/share/p/1Ax7r7wwx1/
الجزء السادس
https://www.facebook.com/share/p/13yWSkeVUZ/
الجزء السابع
https://www.facebook.com/share/p/1E6qCSabMT/
الجزء التامن
https://www.facebook.com/share/p/1QLRXzSG7g/
الجزء التاسع
https://www.facebook.com/share/p/1BTtT4WQJk/
الجزء العاشر
https://www.facebook.com/share/p/1B45f1rFHr/
الجزء الحادي عشر
https://www.facebook.com/share/p/18GLuvDrf5/
الجزء الثاني عشر
https://www.facebook.com/share/p/15Fxh2G6mK/
الجزء الثالث عشر
https://www.facebook.com/share/p/15mvpXW2DJ/
الجزء الرابع عشر
https://www.facebook.com/share/p/1D51eMwEog/
الجزء الخامس عشر
https://www.facebook.com/share/p/1H3GCr6Qdh/
#عايمة_في_بحر_الكتب
#الحكاواتية
#بتاعة_حواديت_تاريخ
#أحمد_بن_طولون
#القطائع
#السيرة_الطولونية
المصادر:
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج2 ـ إبن تغري بردي.
الخطط المقريزية ج2 - المقريزي.
سير أعلام النبلاء الطبقة 15 - الامام الذهبي.
الطولونيون دراسة لمصر الاسلامية في نهاية القرن التاسع الميلادي - دكتور ذكي محمد حسن.
أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية - دكتور عبد العزيز سالم.
تاريخ مصر في عهد أحمد بن طولون - محمد كرد علي.
سيرة أحمد بن طولون - أبو محمد عبد الله محمد المديني البلوي.
أحمد بن طولون - دكتورة سيدة إسماعيل كاشف.
البداية والنهاية ج14 - ابن كثير.
مروج الدهب ومعادن الجوهر ج4 - المسعودي.
تاريخ الطبري ج9 - الامام الطبري.
تعليقات
إرسال تعليق